فصل: (الآيات: الأولى والثانية والثالثة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في ذكر آيات الأحكام في السورة الكريمة:

.قال إلكيا هراسي:

سورة المزمل:
قوله تعالى: {قُمِ اللّيْل إِلّا قلِيلا}، الآية/ 2.
روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قام هو وأصحابه حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك اللّه خاتمتها اثني عشر شهرا، ثم أنزل اللّه تعالى التخفيف في آخر السورة، فكان قيام الليل تطوعا بعد كونه فريضة.
قوله تعالى: {فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن}، الآية/ 20.
فنسخ به قيام الليل المفروض فكان ندبا.
ودلت الآية على لزوم فرض القراءة في الصلاة، بقوله تعالى: {فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن}. اهـ.

.قال القنوجي:

سورة المزمل:
تسع عشرة أو عشرون آية.
وهي مكيّة.
قال الماوردي: كلها في قول الحسن وعكرمة وجابر.
قال: وقال ابن عباس وقتادة: إلا آيتين منها {واصْبِرْ على ما يقولون} والتي تليها [المزمل: 10- 11].

.[الآيات: الأولى والثانية والثالثة]:

{يا أيُّها الْمُزّمِّلُ (1)قُمِ اللّيْل إِلّا قلِيلا (2) نِصْفهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قلِيلا (3)}.
{قُمِ اللّيْل}: أي قم للصلاة في الليل. واختلف هل كان هذا القيام الذي أمر به فرضا عليه أو نفلا؟.
وقوله: {إِلّا قلِيلا} (2): استثناء من الليل، أي صل الليلة كلها إلا يسيرا منها.
والقيام من الشيء: هو ما دون النصف، وقيل: ما دون السدس، وقيل: ما دون العشر.
وقال مقاتل والكلبي: المراد بالقليل هنا الثلث. وقد أغنانا عن هذا الاختلاف قوله: {نِصْفهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ}، أي من النصف.
{قلِيلا} (3): إلى الثلث.
{أوْ زِدْ عليْهِ}، قليلا إلى الثلثين. فكأنه قال: قم ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه.
وقيل: إن {نصفه} بدل من قوله: {قلِيلا} (2): فيكون المعنى قم الليل إلا نصفه أو أقل من نصفه أو أكثر من نصفه.
قال الأخفش: نصفه أي أو نصفه كما يقال أعطه درهما درهمين ثلاثة يريد أو درهمين أو ثلاثة.
قال الواحدي: قال المفسرون: أو انقص من النصف قليلا إلى الثلث، أو زد على النصف إلى الثلثين. جعل له سعة في مدة قيامه في الليل وخيره في هذه الساعات للقيام، فكان النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم وطائفه معه يقومون على هذه المقادير، وشق ذلك عليهم، فكان الرجل لا يدري كم صلى أو كم بقي من الليل وكانوا يقومون الليل كله حتى خفف اللّه عنهم.
وقيل: الضمير في (منه) و(عليه) راجعان إلى الأقل من النصف كأنه قال: قم أقل من نصفه، أو قم انقص من ذلك الأقل أو أزيد منه قليلا! وهو بعيد جدا.
والظاهر أن نصفه قليلا والضميران راجعان إلى النصف المبدل من {قليلا}.
واختلف في الناسخ لهذا الأمر فقيل: هو قوله: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثيِ اللّيْلِ ونِصْفهُ وثُلُثهُ} [المزمل: 20] إلى آخر السورة، وقيل: هو قوله: {علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20]، وقيل: هو قوله: {أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى} [المزمل: 20]، وقيل: هو منسوخ بالصلوات الخمس. وبهذا قال مقاتل والشافعي وابن كيسان، وقيل: هو {فاقْرؤُا ما تيسّر مِن} [المزمل: 20] وذهب الحسن وابن سيرين إلى أن صلاة الليل فريضة على كل مسلم ولو قدر حلب شاة.
{ورتِّلِ القرآن ترْتِيلا} (4): أي اقرأه على مهل مع تدبر.
قال الضحاك: اقرأه حرفا حرفا.
قال الزجاج: هو أن تبين جميع الحروف وتوفي حقوقها من الإشباع.
وأصل الترتيل: التنضيد والتنسيق وحسن النظام، وتأكيد الفعل بالمصدر، يدل على المبالغة على وجه لا يلتبس فيه بعض الحروف ببعض، ولا ينقص من النطق بالحرف من مخرجه المعلوم مع استيفاء حركته المعتبرة.

.[الآية الرابعة]:

{إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثيِ اللّيْلِ ونِصْفهُ وثُلُثهُ وطائِفةٌ مِن الّذِين معك واللّهُ يُقدِّرُ اللّيْل والنّهار علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ فتاب عليْكُمْ فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ يبْتغُون مِنْ فضْلِ اللّهِ وآخرُون يُقاتِلُون فِي سبِيلِ اللّهِ فاقْرؤُا ما تيسّر مِنْهُ وأقِيمُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاة وأقْرِضُوا اللّه قرْضا حسنا وما تُقدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ مِنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِنْد اللّهِ هُو خيْرا وأعْظم أجْرا واسْتغْفِرُوا اللّه إِنّ اللّه غفُورٌ رحِيمٌ (20)}.
{إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثيِ اللّيْلِ}: معنى أدنى: أقل، استعير له الأدنى لأن المسافة بين الشيئين إذا دنت قل ما بينهما.
{ونِصْفهُ}: معطوف على أدنى.
{وثُلُثهُ}: معطوف على نصفه. والمعنى أن اللّه يعلم أن رسوله صلّى اللّه عليه وآله وسلّم يقوم أقل من ثلثي الليل ويقوم نصفه ويقوم ثلثه.
وبالنصب قراءة ابن كثير والكوفيين.
وقرأ الجمهور: {ونصفه وثلثه} بالجر عطفا على ثلثي الليل. والمعنى أن اللّه يعلم أن رسوله يقوم أقل من ثلثي الليل وأقل من نصفه وأقل من ثلثه.
واختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ فتاب} فكيف يقومون نصفه وثلثه وهم لا يحصونه.
وقال الفرّاء: القراءة الأولى أشبه بالصواب لأنه قال: أقل من ثلثي الليل، ثم فسر نفس القلة.
وأيضا الأحاديث الصحيحة المصرحة بقول السائل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم: «هل عليّ غيرها؟ يعني الصلوات الخمس فقال: لا! إلا أن تطوع»، تدل على عدم وجوب غيرها، فارتفع بهذا وجوب قيام الليل وصلاته عن الأمة، كما ارتفع وجوب ذلك على النبي صلّى اللّه عليه وآله وسلّم بقوله: {ومِن اللّيْلِ فتهجّدْ بِهِ نافِلة لك} [الإسراء: 79]. اهـ.

.قال السايس:

من سورة المزمل:
قال الله تعالى: {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ (1) قُمِ اللّيْل إِلّا قلِيلا (2) نِصْفهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قلِيلا (3) أوْ زِدْ عليْهِ ورتِّلِ القرآن ترْتِيلا (4)}
قال الحسن وعكرمة وعطاء وجابر: إنّ هذه السورة مكية كلّها. وحكى الأصبهاني أنّها مكية ما عدا الآيتين: {واصْبِرْ على ما يقولون}. وهو مروي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما.
وهناك قول ثالث: أنها مكية ما عدا قوله تعالى: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ..}.
وقد اعترض السيوطي في (الإتقان) على الأخير بأنه يرده ما أخرجه الحاكم عن عائشة رضي اللّه عنها أنّ قوله تعالى: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ} إلخ قد نزل بعد نزول صدر السورة بسنة، لما كان قيام الليل فرضا في أول الإسلام قبل أن تفرض الصلوات الخمس. يعني: وإذا كانت الصلوات الخمس قد شرعت في مكة قبل الهجرة بسنة، وقد تمّ بفرضيتها نسخ ما كان قبلها من فرض القيام، ظهر أنّ آخر المزمل من المكي.
ولعلك تختار القول الأول لما أورده السيوطي على الأخير، ولأنّ أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر على أذى الكفار، والإعراض عنهم، وهجرهم، إنما كان في أول الإسلام، قبل أن يكثر أنصار الدعوة الإسلامية، وقبل أن يأذن اللّه تعالى للمؤمنين المظلومين أن يدفعوا عن أنفسهم بالقوة. على ما يدل عليه الاستقراء، وتتبع موارد الآيات القرآنية التي تأمر بمثل ما ورد في آيتي واصْبِرْ على ما يقولون والتي بعدها.
{يا أيُّها الْمُزّمِّلُ} (1) المزّمل بتشديد الزاي والميم: اسم فاعل من تزمّل، وأصله المتزمل، فأدغمت التاء والزاي، ومعناه: المتلفف في ثيابه، ومنه قول ذي الرّمة:
وكائن تخطت ناقتي من مفازة ** ومن نائم عن ليلها متزمل

وقرأه أبيّ على الأصل. كما قرئ بتخفيف الزاي، على أنه اسم فاعل أو اسم مفعول.
وقد اختلف المفسرون في سبب تزمّله عليه الصلاة والسلام، فقيل: إنه كان نائما بالليل متزمّلا في قطيفة، أو أنه يريد فتلفّف بالقطيفة، فجاءه الملك بنداء الله تعالى: {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ} (1) إلخ ليدع النوم، ويقوم لما هو أهم، وينهض لعبادة اللّه في ناشئة الليل، فإنها خير معين له على تحمّل ما سيرد عليه من الوحي، وما سيلقى عليه من القول الثقيل. وقيل: إنّ تزمّله عليه الصلاة والسلام كان لأسفه وحزنه لما بلغه ما كان من المشركين، وما دبّروه من القول السيئ، يدفعون به دعوته. فقد أخرج البزار والطبراني في (الأوسط) وأبو نعيم في (الدلائل) عن جابر رضي اللّه عنه قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما تصدّوا الناس عنه. فقالوا: كاهن. قالوا: ليس بكاهن، قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون، قالوا: ساحر، قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرّق بين الحبيب وحبيبه، فتفرّق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم، فتزمل في ثيابه، وتدثّر فيها، فأتاه جبريل عليه السلام فقال: {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ} (1) {يا أيُّها الْمُدّثِّرُ} (1).
وقد يساعد هذا القول ما ورد في السورة من قوله تعالى: {واصْبِرْ على ما يقولون واهْجُرْهُمْ هجْرا جمِيلا (10) وذرْنِي والْمُكذِّبِين أُولِي النّعْمةِ ومهِّلْهُمْ قلِيلا (11)} على القول بأنّ هاتين الآيتين من المكي، وأنهما نزلتا مع الآيات السابقة.
غير أنّه يقال: إذا كان هذا هو سبب التزمل، وأنه من أجله أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم في هذه السورة أن يهجر أولئك، ويصبر عليهم، ولا يأبه لقولهم، فما السبب في أنه لم تذكر الآيتان واصْبِرْ على ما يقولون وما بعدها عقب النداء؟ ولما ذا فصل بين ذلك بالأوامر الأولى المتعلقة بقيام الليل والذكر والترتيل؟
والجواب: أنه لا شك أنّ هذه العبادات تقوّي قلبه عليه الصلاة والسلام، وتثبّت فؤاده، وتعينه على الصبر والاحتمال والإغضاء عن السوء من أقوال الكافرين.
وقيل: إنّ السبب هو ما ورد في حديث جابر المشهور على ما أخرجه أحمد والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت، فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئا، ونظرت خلفي، فلم أر شيئا، فرفعت رأسي، فإذا الذي جاءني بحراء جالس على كرسيّ بين السماء والأرض، فجثثت- بمثلثتين مبنيا للمجهول، فزعت- منه رعبا، فرجعت، فقلت: دثروني، دثروني»
وفي رواية: «فجئت أهلي، فقلت: زمّلوني زمّلوني، فأنزل اللّه: {يا أيُّها الْمُدّثِّرُ} (1)».
وجمهور العلماء يقولون: وعلى إثرها نزلت {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ (1)} وعلى هذا يكون سبب التزمل هو ما عراه صلى الله عليه وسلم من الرعب والفزع عند رؤية الملك، وتكون حادثة التزمل هي حادثة التدثر بعينها، أما على القولين الأولين فيصحّ أن يكون السبب واحدا أيضا، كما يصحّ أن يكون مختلفا.
والحكمة في ندائه عليه الصلاة والسلام بوصف التزمل هو إرادة ملاطفته وإيناسه، على نحو ما كان عليه العرب في مخاطباتهم في مثل هذه الحالة، ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي لما غاضب فاطمة، وكان نائما قد لصق بجبينه التراب فقال له: «قم أبا ترب».
{قُمِ اللّيْل إِلّا قلِيلا (2) نِصْفهُ أوِ انْقُصْ مِنْهُ قلِيلا (3) أوْ زِدْ عليْهِ} المراد من قيام الليل صلاة التهجد، وذلك بتقدير الصلاة، أي انهض لصلاة الليل، أو بتضمين (قم) معنى صل.
وقد أعرب بعض المفسرين: {الليل} ظرفا لفعل القيام، جريا على مذهب البصريين الذين يجوّزون في مثله أن يكون ظرفا، ولو استغرقه الحدث، كما هنا، فإنّ المعنى على إرادة جميع أجزاء الليل حتى يصحّ الاستثناء بقوله: {إِلّا قلِيلا} فإنّ الاستثناء معيار العموم.
أما على رأي الكوفيين الذين يمنعون ذلك فنصب {الليل} يكون من قبيل النصب على المفعولية.
ومعنى {قُمِ اللّيْل إِلّا قلِيلا} (2) انهض للصلاة مستغرقا بها الليل إلا جزءا قليلا منه، {ونِصْفهُ} بدل كل من {الليل} بعد مراعاة الاستثناء، فكأنه قيل: قم نصف الليل، ويصحّ أن يكون بدلا من {قلِيلا} والأمران في قوله تعالى: {أوِ انْقُصْ مِنْهُ قلِيلا أوْ زِدْ عليْهِ} معطوفان على الأمر الأول. والضميران في {منه} و{عليه} عائدان على الليل بعد مراعاة الاستثناء، والإبدال أيضا. ويصحّ أن يعود على {نصفه} والمآل واحد.
وحاصل المعنى أنه صلى الله عليه وسلم مأمور بأن يقوم من الليل للتهجد، وأنّ اللّه خيّره أن يقوم نصف الليل، وأن ينقص من النصف مقدارا قليلا، وأن يزيد على ذلك النصف، ولم تقيد الزيادة على النصف بالقلّة، كما قيّد النقص بها، لأنّ الزيادة الكثيرة لا تخلّ بالأمر، بل فيها زيادة برّ وعمل صالح. أمّا النقص الكثير عن النصف فعلى خلاف ذلك، إذ إنّه مخلّ بالمطلوب.
هذا وقد قال العلماء: إنّه في حالة النقص عن النصف لا يتحقق الوفاء إلا إذا كان النقص لا يبلغ الربع، وهو ظاهر، إذ لا يقال في الاستعمال العربي لمن اقتصر على الربع إنه أنقص من النصف قليلا- ومن العلماء من قال: إنّ القليل هو ما دون السدس، فإذا بلغ النقص السدس، أو تجاوزه كان كثيرا مخلّا بالوفاء.
لكنه يقال: كيف يكون النصف بدل كلّ من الليل الذي استثنى منه القليل؟
وكيف يكون نصف الشيء مطابقا له مع استثناء جزء قليل منه؟
وأجاب المفسرون بأنّه لزيادة الاعتناء بالنصف المقارن للتهجد، وتفضيله بالصلاة فيه على النصف الآخر الخالي من الصلاة، جعل هو أغلب الليل وأكثره، وإن كان في الحقيقة نصفه.
ظاهر توجيه الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأمره بقيام الليل مع ندائه بالوصف الخاصّ به- وهو التزمل- أنّ التهجد كان فريضة عليه، وأنّ فرضيته كانت خاصة به. وإلى هذا ذهب جمع من العلماء، قالوا: وهو الذي يدلّ عليه قوله تعالى: {ومِن اللّيْلِ فتهجّدْ بِهِ نافِلة لك} [الإسراء: 79] فإنّ قوله: {نافِلة لك} بعد الأمر بالتهجد ظاهر في أن الوجوب من خصائصه عليه الصلاة والسلام، وليس معنى النافلة في هذه الآية ما يجوز فعله وتركه، فإنّه على هذا الوجه لا يكون خاصا به عليه الصلاة والسلام، بل معنى كون التهجد نافلة له صلى الله عليه وسلم أنّه شيء زائد على ما هو مفروض على غيره من الأمة.
وذهب جماعة آخرون إلى أنّ وجوب التهجد كان ثابتا في حقّ الأمة أيضا، مستندين إلى قوله تعالى في آخر السورة التي معنا {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثيِ اللّيْلِ ونِصْفهُ وثُلُثهُ وطائِفةٌ مِن الّذِين معك واللّهُ يُقدِّرُ اللّيْل والنّهار علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ فتاب عليْكُمْ فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن} إلخ. فإنه يدلّ على أنّ الصحابة كانوا يقومون من الليل كما كان يقوم النبي صلى الله عليه وسلم أدنى من ثلثيه ونصفه وثلثه، وإنه قد خفّف اللّه عنهم جميعا بأمرهم بالقيام على حسب ما يتيسر لهم، قالوا: ويشهد لهذا ما رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنّه كان يقول:
أوّل ما نزل أول المزمل، كانوا يقومون نحوا من قيامهم في شهر رمضان، وكان بين أولها وآخرها قريب من سنة.
وما رواه ابن جرير عن أبي عبد الرحمن أنه قال: لما نزلت {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ} (1) قاموا حولا حتى ورمت أقدامهم وسوقهم، حتى نزلت {فاقرءوا ما تيسر منه} قال:
فاستراح الناس.
وما أخرجه الإمام أحمد في (مسنده) عن سعيد بن هشام أنه سأل عائشة رضي اللّه عنها عن قيام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت: ألست تقرأ هذه السورة: {يا أيُّها الْمُزّمِّلُ} (1)؟
وقال بعض الناس: إنّ التهجد لم يكن مفروضا لا على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا على أحد من أمته، واحتجّوا على ذلك بما يأتي:
1- ظاهر قوله تعالى في سورة الإسراء {نافِلة لك} [الإسراء: 79] فإنه يفيد أنّ التهجد زيادة لم تتعلق بها الفرضية، وقد علمت ردّه فيما سبق.
2- أنّ الأمر في قوله تعالى: {قُمِ اللّيْل} وقوله جلّ شأنه: {ومِن اللّيْلِ فتهجّدْ} لا يفيد الوجوب، وحمله على الندب أولى، لأنّا وجدنا أوامر الشريعة تارة تفيد الوجوب، وتارة تفيد الندب، فينبغي حمل ما يرد منها على القدر المشترك بينهما، وهو ترجيح جانب الفعل على جانب الترك، دفعا للتجوّز والاشتراك اللفظي وإذا كان الأمر كذلك كان الثابت معنى الندب، لأن تمام معنى الواجب- وهو عدم جواز الترك- لابد له من دليل آخر، كالتوعد على الترك، أو قرينة أخرى تدل على ذلك، وهو غير متوفّر في الأمرين السابقين، فبقي الترك على أصله، وهو الجواز.
والجواب يعلم مما تقرر في علم الأصول، وهو أنّ المختار في الأوامر حملها على الإلزام، إلا أن يصرف عن ذلك صارف، وهو مذهب الجمهور.
3- أنه تعالى ترك تقدير قيام الليل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، وخيّره بين أن يقوم نصف الليل، أو يزيد عليه، أو ينقص منه، ومثل هذا لا يكون في الواجبات، فإنّ الشأن فيها أن تعيّن وتحدّد مقاديرها، كما في المكتوبات.
والجواب: أنه لا مانع من ذلك. وقد عهد في الشريعة أن يفرض اللّه على المكلف أحد أمور معينة، بحيث لا يجوز له الإخلال بها جميعا، ثم إذا فعل واحدا منها كان قائما بما وجب عليه، فيكون قيام الليل مفروضا، بحيث لا ينقص كثيرا عن النصف، فإذا قام المكلف في الليل قريبا من نصفه فقد حصل الواجب، وإذا زاد إلى النصف أو أكثر منه كان محصّلا للواجب من باب أولى.
وبعد فهذه أقوال ثلاثة قد عرفت مآخذها، وعرفت الردّ على ما استدل به أصحاب القول الثالث.
أما ما استند إليه أصحاب القول الأول فيمكن الجواب عنه بأنّ توجيه الخطاب إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وحده لا يقتضي تخصيصه بما ورد بعده من الأوامر، فإنّه عليه الصلاة والسلام نبيّ متبوع، وخطابه يتناول أمته، كما هو معروف في الأصول، إلّا أن يقوم دليل على الخصوص.
أما آية الإسراء: {ومِن اللّيْلِ فتهجّدْ بِهِ نافِلة لك} [الإسراء: 79] فهي مدنية متأخّرة في النزول عن سورة المزمّل فيصح أن يكون التهجد قد بقي وجوبه على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعد ما نسخ عن أمته، ويكون معنى الآية: استمر على التهجد بالليل فريضة زائدة لك على ما استقرّ وجوبه على أمتك.
والذي يستخلص من ذلك أنّ أرجح الأقوال هو الثاني، وهو القول بأنّ التهجد كان فريضة على النبيّ صلى الله عليه وسلم وعلى أمته، إذ هو الذي يمكن أن تأتلف عليه النصوص القرآنية السابقة. ويشهد له ما تقدّم من الآثار عن ابن عباس وعائشة وغيرهما.
وننتقل بعد ذلك إلى الكلام في بقاء وجوب التهجد وعدمه، وفي تعيين الناسخ على القول بعدم البقاء.
وللعلماء في ذلك أربعة أقوال:
الأول: نقل عن الحسن وابن سيرين وابن جبير ما يفيد القول ببقاء وجوب التهجد على الناس جميعا، وأنّ أصل وجوب القيام لم ينسخ، وإنما الذي نسخ هو وجوب قيام جزء مقدّر من الليل لا ينقص كثيرا عن النصف على ما علمت. وهذا قول يخالف ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها على ما سبق، وكذلك يخالف ما روي عن ابن عباس أنّه قال: سقط قيام الليل عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وصار تطوعا، وبقي بعد ذلك فرضا على رسول اللّه عليه الصلاة والسلام.
ويردّه أيضا ما ثبت في (الصحيحين) أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال للرجل الذي سأله عما يجب: «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل عليّ غيرها؟ قال: «لا، إلا أن تطوّع».
القول الثاني: أنّه نسخ عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أمته بآخر سورة المزمّل، واستبدل به قراءة القرآن على ما يعطيه ظاهر قوله تعالى: {علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ فتاب عليْكُمْ فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن} [المزمل: 20].
ويدل عليه أيضا ظاهر ما روي عن عائشة رضي اللّه عنها كما تقدم فإنّ قولها:
فصار قيام الليل تطوعا، لم تقيده بالأمة.
القول الثالث: أنّ وجوب التهجد استمر على النبي وعلى الأمة، حتى نسخ بالصلوات الخمس ليلة المعراج.
القول الرابع: أنّه نسخ عن الأمة وحدها، وبقي وجوبه على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على ما يعطيه ظاهر آية الإسراء [79].
ولعلّ الراجح هو هذا القول الأخير، كما أنّ الظاهر أنّ نسخ التهجد لم يحصل دفعة واحدة، فإنّ آخر سورة المزمل يفيد نسخ المقدار الذي بيّن في أولها، ولا يلزم من هذا نسخ وجوب التهجد من أصله، وكان بين آخر السورة وأولها نحو عام، كما ورد في الآثار السابقة.
أما النسخ أصل الوجوب فإنه كان بافتراض الصلوات الخمس ليلة المعراج، وكان ذلك قبل الهجرة بعام.
والظاهر أيضا أنّ هذا كله بالنظر للأمة، فأما النبي صلى الله عليه وسلم فإنّ آية الإسراء المدنية تدلّ على أنّ وجوب التهجد قد بقي عليه من بعد هذا، وأنّه استمر وجوبه عليه لم ينسخ إلى آخر حياته عليه الصلاة والسلام لعدم ما يدلّ على ذلك النسخ، وهذا هو الذي يشهد له ما تقدّم لك عن ابن عباس أنه يقول: سقط قيام الليل عن أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وصار تطوعا، وبقي ذلك فرضا على رسول اللّه عليه الصلاة والسلام.
ويشهد له أيضا ما صحّ أنه صلى الله عليه وسلم لم يدع قيام الليل حضرا ولا سفرا، وأنه كان إذا شغله عن قيام الليل نوم أو وجع صلّى من النهار اثني عشر ركعة. كما ورد عن عائشة في حديثها مع سعيد بن هشام وقد تقدم بعضه. فإنّ مواظبة الرسول صلى الله عليه وسلم على قيام الليل في الحضر والسفر، وقضاءه ما فاته من ذلك بعذر النوم أو المرض دليل على استمرار فرضية القيام عليه صلى الله عليه وسلم.
ورتِّلِ القرآن ترْتِيلا تقول العرب: ثغر رتل ورتل بالفتح والكسر، إذا كان مفلّجا أو حسن التنضيد، وفي (القاموس): الرتل محركة: حسن تناسق الشي ء، وفيه أيضا: ورتل الكلام ترتيلا: أحسن تأليفه. وترتّل فيه ترسّل.
أما أقوال أهل التفسير: فعن ابن عباس أنّ معنى ورتِّلِ القرآن ترْتِيلا بيّنه تبيينا وعن مجاهد: ترسّل فيه ترسلا. وقال قتادة: تثبّت فيه تثبتا. وكلها تدور حول شيء واحد، والمراد: اقرأه في قيامك بالليل على مهل، وتبيّن حروفه، فإنّ ذلك يكون عونا لك ولمن يسمع منك على فهمه وتدبر معانيه.
أخرج العسكري في (المواعظ) عن عليّ كرّم اللّه وجهه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية فقال: «بيّنه تبيينا، ولا تنثره نثر الدقل، ولا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، وحرّكوا به القلوب، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة».
الدقل بفتح القاف:
رديء التمر ويابسه. والهذّ: الإسراع، ولقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقرأ قراءة مرتّلة مفسّرة حرفا حرفا، وكان يقطّع قراءته آية آية، ويمد حروف المد.
روى ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن أمّ سلمة رضي اللّه عنها أنّها سئلت عن قراءة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت: «كان يقطّع قراءته آية آية {بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ (1) الْحمْدُ لِلّهِ ربِّ الْعالمِين (2) الرّحْمنِ الرّحِيمِ (3) مالِكِ يوْمِ الدِّينِ(4)}» رواه أحمد وأبو داود والترمذي.
وأخرج البخاري عن أنس «أنّه سئل عن قراءة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال: كانت مدّا، ثم قرأ: بِسْمِ اللّهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ (1) يمد بِسْمِ اللّهِ ويمد الرّحْمنِ ويمد الرّحِيمِ».
وعلى هذا فليس لأحد من الناس مخالفة في أنّه يقرأ القرآن بترتيل وتبيين حروف، وتحسين مخارج، وإظهار مقاطع، إنما الكلام في التغني به وتلحينه.
وقد اختلف في ذلك علماء السلف والخلف، فقال بكراهته أنس بن مالك، وسعيد بن المسيّب، وسعيد بن جبير، والقاسم بن محمد، والحسن، وابن سيرين، وإبراهيم النخعي، والإمامان مالك وأحمد.
وروي عن ابن المسيب أنّه سمع عمر بن عبد العزيز يؤم الناس فطرب في قراءته، فأرسل إليه سعيد يقول: أصلحك اللّه إنّ الأئمة لا تقرأ هكذا. فترك عمر التطريب بعد.
وروي عن القاسم أنّ رجلا قرأ في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فطرب فأنكر ذلك القاسم، وقال: يقول اللّه عز وجل: {لا يأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بيْنِ يديْهِ ولا مِنْ خلْفِهِ}.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه سئل عن الألحان في الصلاة؟ فقال: لا تعجبني، وقال: إنما هو غناء يتغنون به ليأخذوا عليه الدراهم.
وروي عن أحمد أنّه كان يقول في قراءة الألحان: ما تعجبني، ويقول: القراءة بالألحان بدعة لا تسمع.
وعن عبد اللّه بن يزيد العكبري قال: سمعت رجلا يسأل أحمد: ما تقول في القراءة بالألحان؟ فقال له: ما اسمك؟ قال: محمد. قال له: أيسرك أن يقال لك:
موحامد، ممدودا؟
وأجاز القراءة بالألحان عمر بن الخطاب، وابن عباس وابن مسعود وعبد الرحمن بن الأسود بن زيد والإمامان أبو حنيفة والشافعي، واختاره أبو جعفر الطبري وأبو بكر بن العربي.
فعن عمر بن الخطاب فيما رواه الطبري أنه كان يقول لأبي موسى: ذكّرنا ربنا، فيقرأ أبو موسى ويتلاحن، فيقول عمر: من استطاع أن يتغنّى بالقرآن غناء أبي موسى فليفعل.
وابن مسعود كانت تعجبه قراءة علقمة الأسود- وكان حسن الصوت- فكان يقرأ له علقمة، فإذا فرغ قال له: زدني فداك أبي وأمي.
وعن عطاء بن أبي رباح قال: كان عبد الرحمن بن الأسود يتبع الصوت الحسن في المساجد في شهر رمضان.
وروى الطحاوي أنّ أبا حنيفة كان يستمع القرآن بالألحان، كما روي أنّ الشافعي كان كذلك.
هذا هو المأثور عن الأئمة والعلماء في قراءة التلحين والتطريب، والنظر بعد ذلك في أدلتهم.
استدل المجيزون بما يأتي:
1-
ما أخرجه أبو داود والنسائي عن البراء بن عازب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «زيّنوا القرآن بأصواتكم».
2- وما أخرجه مسلم من قوله صلى الله عليه وسلم: «ليس منّا من لم يتغنّ بالقرآن».
3- وما في (البخاري) عن عبد اللّه بن مغفّل قال: «قرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح في مسير له سورة الفتح على راحلته فرجّع في قراءته».
4- وما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم استمع ليلة لقراءة أبي موسى الأشعري، فلما أخبره بذلك قال: لو كنت أعلم أنّك تسمعه لحبّرته لك تحبيرا، ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعه قال: «إنّ هذا أعطي مزمارا من مزامير آل داود».
5- وما رواه مسلم عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «ما أذن اللّه لشيء أذنه لنبي حسن الصوت يتغنّى بالقرآن». الأذن بفتحتين الاستماع.
6- وقالوا أيضا: إنّ الترنم بالقرآن، والتطريب بقراءته من شأنه أن يبعث على الاستماع والإصغاء، وهو أوقع في النفس، وأنفذ في القلب، وأبلغ في التأثير.
روي أنّ عقبة بن عامر كان من أحسن الناس صوتا فقال له عمر: اعرض عليّ سورة كذا، فعرض عليه، فبكى عمر وقال: ما كنت أظنّ أنها نزلت.
أما المانعون فاحتجوا بما يأتي:
1- ما رواه الحكيم الترمذي في (نوادر الأصول) عن حذيفة بن اليمان عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «اقرؤوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الكتاب والفسق، فإنّه يجيء من بعدي أقوام يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم» فقد نعى على من يرجّع بالقرآن ترجيع الغناء والنوح، على نحو ما يفعله أكثر قرأء هذا العصر، ووصفهم بفتنة القلوب، كما وصف بها كل من يسمع لهم ويعجبه شأنهم.
2- وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنّه ذكر أشراط الساعة، وذكر أشياء، منها أن يتخذ القرآن مزامير، وقال: «يقدمون أحدهم ليس بأقرئهم، ولا أفضلهم ليغنيهم غناء».
3- وما رواه ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: كان لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم مؤذّن يطرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنّ الأذان سهل سمح، فإن كان أذانك سهلا سمحا وإلا فلا تؤذن» أخرجه الدار قطني. فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم أن يطرب المؤذن في أذانه، فدلّ ذلك على أنه يكره التطريب في القراءة بطريق أولى.
4- وما روي أنّ زيادا النميري جاء إلى أنس رضي اللّه عنه مع القراء فقيل له: اقرأ، فرفع صوته وطرب- وكان رفيع الصوت-، فكشف أنس عن وجهه، وكان على وجهه خرقة سوداء، وقال: يا هذا ما هكذا كانوا يفعلون، وكان إذا رأى شيئا ينكره رفع الخرقة عن وجهه. وهذا له حكم الرفع، فقوله: ما هكذا كانوا يفعلون. دلّ على أنّ القراءة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لم تكن على نحو قراءة زياد.
5- وقالوا أيضا: إنّ التغني والتطريب يؤدّي إلى أن يزاد على القرآن ما ليس منه، وذلك لأنّه يقتضي مدّ ما ليس بممدود، وهمز ما ليس بمهموز، وجعل الحرف الواحد حروفا كثيرة، وهو لا يجوز. هذا إلى أنّ التلحين من شأنه أن يلهي النفوس بنغمات الصوت، ويصرفها عن الاعتبار وتدبر معاني القرآن.
هذه أدلة المانعين، وقد تأوّلوا ما أورده المجيزون مما يفيد جواز القراءة بالألحان فقالوا في حديث: «زينوا القرآن بأصواتكم» إن فيه قلبا، وأصله: «زينوا أصواتكم بالقرآن»
كما قيل في: عرضت الناقة على الحوض، وعلى تسليم أنه ليس في الحديث قلب، فمعنى تزيين القرآن بالأصوات تجويده، وتحسين أدائه بالمد والغنة والإظهار، وضبط كلماته، وتبيين حروفه، وأنت ترى أنّ هذا التأويل بوجهيه بعيد عن لفظ الحديث غاية البعد، وهو على كل حال تأويل لا دليل عليه، ولا موجب له.
وقالوا في الحديث الثاني: «ليس منّا من لم يتغن بالقرآن»
إنه ليس من الغناء وإنما هو من الاستغناء، كما فسره بذلك سفيان بن عيينة، ومعناه: ليس منا من لم يستغن بالقرآن عن الحديث، أو عن أخبار الأولين. قالوا: وقد ورد التغني بمعنى الاستغناء في كلام العرب. قال الأعشى:
وكنت امرأ زمنا بالعراق ** عفيف المناخ طويل التغنّي

وأنت ترى أيضا أنّ تأويل التغني بالاستغناء تأويل بعيد لا دليل عليه، ولذلك لما سئل الشافعي عن هذا التأويل المنسوب لابن عيينة قال: نحن أعلم بهذا، لو أراد به الاستغناء لقال. من لم يستغن بالقرآن، ولكن لما قال: «يتغنّ بالقرآن» علمنا أنه أراد به الغناء. أما بيت الأعشى فلا حجة لهم فيه، فإنّه لا يستقيم معناه على إرادة الاستغناء، وإنما هو بمعنى الإقامة، من قولهم: غنى فلان بمكان كذا إذا أقام، ومنه قوله تعالى: {كأنْ لمْ يغْنوْا فِيها}.
ثم أوّلوا ما ورد في بقية الأحاديث التي استدلّ بها المجيزون من الترجيع والتحبير والتغني مما يرجع لحسن التجويد، وإتقان الأداء.
والحق أنّ الأدلة تشهد للمجيزين، وذلك لأنه إذا كان التلحين والتطريب يغيّر من ألفاظ القرآن، ويخلّ بما نقل إلينا من طرق الأداء أو كان تكلّفا وتصنّعا ورفعا وخفضا على نحو توقيعات الموسيقى، فلا كلام في أنّه ممنوع ومحرّم.
أما إذا كان تحبيرا وترقيقا وتحزينا، وشيئا قضى به اتعاظ القارئ، وكمال تأثّره بمعاني القرآن، فليس هناك من الأدلة ما ينهض على منعه. بل الأدلة شاهدة به وداعية إليه. وعلى هذا ينبغي حمل كل ما أورده المانعون في منع التغني على التغني المذموم الذي يسير فيه القارئ مع الهوى ويلهو به عن تدبر المعنى ويخرج فيه عن الحدود والقوانين المأثورة في الأداء والترتيل. وهذا محمل قريب جدا وهو فوق ذلك مؤيد بتلك النصوص والآثار التي تجيز التغني في قراءة القرآن وبعد هذا ترى الأدلة كلها متفقة لا تعارض بينها ولا تدافع.
{إِنّا سنُلْقِي عليْك قولا ثقِيلا (5)} الإلقاء: الإنزال: والإيحاء. وعبّر به للإشارة من أول الأمر إلى أنّ ما يوحى به شديد وعظيم.
والمراد بالقول الثقيل: القرآن، وثقله باعتبار ما اشتمل عليه من تحميله عليه الصلاة والسلام أعباء الرسالة ومهمة التبليغ، وما إلى ذلك من التكاليف التي يتطلّب القيام بها صبرا وجلدا وقوة عزيمة.
وقيل: إنه ثقيل في نزوله عليه صلى الله عليه وسلم، وتلقيه إياه من الوحي، فقد كان عليه الصلاة والسلام يكرب عند ذلك، ويرجف، ويشتدّ عليه الأمر.
روى الشيخان ومالك والترمذي والنسائي عن عائشة رضي اللّه عنها أنّها قالت: ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإنّ جبينه ليتفصّد عرقا.
أخرج أحمد وابن جرير وغيرهما عن عائشة«أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوحي إليّه وهو على ناقته وضعت جرانها، فما تستطيع أن تتحرّك، حتى يسرّى عنه، وتلت {إِنّا سنُلْقِي عليْك قولا ثقِيلا (5)}».
وروي «أنه صلى الله عليه وسلم نزل عليه الوحي مرة، وكان جالسا واضعا فخذه على فخذ زيد بن ثابت، فكادت فخذه عليه الصلاة والسلام ترضّ فخذ زيد من شدّة الضغط.»
قيل: معنى ثقله: أنه كلام رصين، فخم، له رجحان ووزن، ليس بالسفساف ولا بالهين الضعيف.
وقيل: إنّ ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر، لا يزول ولا يتبدل، فإنّ المعهود في الأجسام الثقيلة أنّها تثبت وتبقى في مكانها.
قال الله تعالى: {إِنّ ناشِئة اللّيْلِ هِي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا (6)} واختلف المفسرون في المراد بالناشئة. فقيل: إنّها من نشأ من مكانه إذا نهض، فتكون الإضافة في ناشِئة اللّيْلِ على معنى في. والمعنى: إن النفس أو النفوس الناشئة في الليل الناهضة من مضاجعها للعبادة {هِي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا} والوطء المواطأة والموافقة، كالوطاء.
والقيل: القول كالمقال. والمراد به قراءة القرآن، أو مطلق الذّكر، أي إنها أشد موافقة ومصادفة للخشوع والإخلاص.
أو أن قلبها يكون بالليل أشد موافقة للسانها منه في سائر الأوقات، إذ يكون القلب في ساعات الليل حاضرا لا يشغله شاغل، ولا يصرفه عن خشية اللّه صارف.
{وأقْومُ قِيلا} أي إنّ قولها يكون حينئذ أكثر اعتدالا واستقامة على نهج الصواب، لأنّ الأصوات هادئة، والليل ساكن، فلا يضطرب المصلي، ولا يختلط عليه قوله وقراءته.
وقيل: إن المراد بناشئة الليل العبادة فيه، ومعنى أن عبادة الليل أشدّ وطأ: أن موافقتها الإخلاص والخشوع في هذا الوقت أعظم منها في أي وقت آخر. أو أنّ قلب العابد فيها يكون أكثر موافقة للسانه منه في غير ذلك من الأوقات.
وقيل: المراد بناشئة الليل ساعاته، والمعنى عليه كسابقه، ولعلّ أحسن هذه الأقوال أوسطها.
أما موقع هاتين الآيتين مما قبلهما، فقال بعض المفسرين: إن أولاهما معترضة بين الأمر بالقيام وعلتها التي بينتها الآية الثانية، وهي قوله تعالى: {إِنّ ناشِئة اللّيْلِ هِي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا (6)} وإنّ السر في هذا الاعتراض هو تسهيل أمر القيام بالليل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بالموازنة بينه وبين ما سيوحى إليه من أنواع التكاليف وشدائد الأعمال.
ولكنّك ترى أنّه لا حاجة إلى جعل الآية الأولى معترضة بين ما قبلها وما بعدها، فإنّ ارتباطها بما قبلها واضح جدّا، وهي منه في منزلة العلة من المعلول، فكأنّ اللّه تعالى يقول لنبيه: قُمِ اللّيْل وتجرد للعبادة، وأعد نفسك لما سيلقى عليك، لأنّا سنوحي إليك بأمور عظيمة، وسنحمّلك تكاليف ثقيلة تقتضيها طبيعة الرسالة التي اخترناك لها.
ثم إنّ هذا يتضمّن دعوى أنّ العبادة في جوف الليل تعينه صلى الله عليه وسلم، وتهيئه لتحمل أعباء الرسالة، والاضطلاع بشؤونها، فتأتي الآية الثانية وهي قوله تعالى: {إِنّ ناشِئة اللّيْلِ هِي أشدُّ وطْئا وأقْومُ قِيلا (6)} لتعزيز الدعوى. فهي من سابقتها بمنزلة العلة من المعلول.
فكأنّ اللّه جل شأنه يقول: حقا إنّ قيام الليل يعينك على تحمل ما سنلقيه عليك، لأنّ عبادة الليل أشدّ مواطأة وموافقة للإخلاص والخشوع، وأكثر اعتدالا واستقامة على نهج الحق والصواب.
قال الله تعالى: {إِنّ لك فِي النّهارِ سبْحا طوِيلا (7)} السبح في الأصل: الذهاب في الماء، والتقلّب فيه. ويصحّ أن يطلق عن القيد، فيستعمل في مطلق الذهاب والتقلّب. وعلى هذا يكون معنى الآية: إنّ لك في النهار شغلا كثيرا، وتقلبا في أعمال متنوعة لا تستطيع معها أن تقوم في النهار بما يريده منك من تلك العبادات الخاصة، فلذلك كتبناها عليك في الليل، فيكون هذا تيسيرا على النبيّ صلى الله عليه وسلم، وبيانا للحكمة في التخفيف عنه، إذ لم يجمع عليه في النهار بين تلك العبادات وبين ما هو موكول إليه من الأعمال.
ويصحّ أن يكون الغرض توكيد أمر القيام عليه، وأنه يجب أن يتفرّغ له بالليل، إذ يكفي أن يكون له من النهار فسحة طويلة يزاول فيها ما شاء من الأعمال. أما الليل فيجب أن يتوفّر فيه على القيام بحقّ اللّه وعبادته.
قال الله تعالى: {واذْكُرِ اسْم ربِّك وتبتّلْ إِليْهِ تبْتِيلا (8)} التبتل: الانقطاع، يقال بتله وبتّله بالتخفيف والتشديد، بتلا وتبتيلا، فانبتل وتبتّل، ومنه البتول للعذراء المنقطعة عن الأزواج، أو المنقطعة للعبادة.
يأمر اللّه سبحانه وتعالى نبيّه أن يداوم على ذكر اللّه بالتسبيح والتحميد والتهليل وقراءة القرآن، فلا يشغله عن ذلك شاغل في ليله ولا نهاره، وأن يجعل همّه كله في إرضاء ربه، ويجرد نفسه عن التعلق بغيره، ويستغرق في مراقبته في كل ما يأتي وما يذر من الأعمال.
وليس المراد أن ينقطع حتى عن أعمال النهار، ويعكف على الذكر والعبادة، فإنّه يتنافى مع قوله تعالى في الآية السابقة: {إِنّ لك فِي النّهارِ سبْحا طوِيلا (7)} بل المراد التنبيه إلى أنّه ينبغي ألا يشغله السبح في أعمال النهار عن ذكر اللّه.
هذا وإنما قيل: {تبْتِيلا} ولم يقل: تبتلا، حتى يتفق مع الفعل قبله، مراعاة للفواصل، وللدلالة على أنّ التبتل والانقطاع يحتاج إلى عمل اختياري منه صلى الله عليه وسلم، بأن يجرّد نفسه عن التعلق بغير اللّه تعالى، ويحصر همه في مراقبته جلّ شأنه، فيحصل التبتل الذي هو أثر لذلك. وقد يقال: فلما ذا لم يقل: وتبتل إليه تبتيلا حتى يوافق الفعل مصدره؟
والجواب: إنّ ذلك للإشارة إلى أنّ المقصود الأهم إنما هو حصول ذلك الأثر، وهو التبتل.
قال الله تعالى: {إِنّ ربّك يعْلمُ أنّك تقُومُ أدْنى مِنْ ثُلُثيِ اللّيْلِ ونِصْفهُ وثُلُثهُ وطائِفةٌ مِن الّذِين معك واللّهُ يُقدِّرُ اللّيْل والنّهار علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ فتاب عليْكُمْ فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ يبْتغُون مِنْ فضْلِ اللّهِ وآخرُون يُقاتِلُون فِي سبِيلِ اللّهِ فاقْرؤُا ما تيسّر مِنْهُ وأقِيمُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاة وأقْرِضُوا اللّه قرْضا حسنا وما تُقدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ مِنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِنْد اللّهِ هُو خيْرا وأعْظم أجْرا واسْتغْفِرُوا اللّه إِنّ اللّه غفُورٌ رحِيمٌ (20)}.
المراد من القيام هو ما تقدّم في أول السورة، وهو صلاة التهجد على ما عرفت. وكلمة أدْنى من الدنو، وهو القرب، فهي في الأصل بمعنى أقرب، تقول: رأيت محمّدا في الدرس أدنى التلاميذ من الأستاذ، أي أنه يجلس في أقرب الأمكنة إليه، لكنّها استعملت في الآية بمعنى الأقل، على طريق المجاز المرسل، لأنه إذا قربت المسافة بين الشيئين كانت الأحيان بينهما قليلة.
قرأ الجمهور: {ونِصْفهُ وثُلُثهُ} بالنصب عطفا على {أدْنى} لأنّه ظرف أو مفعول فيكون المعنى: إنّ اللّه قد علم أنّك كنت تقوم من الليل للصلاة على هذه الأوجه، فتارة تقوم أقلّ من ثلثيه، وأخرى تقوم نصفه، وثالثة تقوم ثلثه، وهذه القراءة تدلّ على أنّ عمله صلى الله عليه وسلم وعمل الصحابة معه كان وفق المأمور به في أول السورة، فإنّه إذا قام أقلّ من الثلثين فقد حقّق الزيادة على النصف، وإذا قام الثلث، فقد صدق أنّه نقص عن النصف قليلا. والنصف مطابق للنصف.
وحينئذ لا تكون هناك مخالفة، لا بطريق الاختيار، ولا بطريق الاضطرار. ويكون التخفيف عنهم بسبب أنّهم- كما علم اللّه- لا يطيقون المواظبة على القيام بالمأمور به، إذ لا يمكنهم تقدير الليل، ولا يستطيعون ضبط ساعاته، فإذا حرصوا على الوفاء بالمطلوب اضطروا أن يأخذوا بأكبر المقادير وأوسعها، وفي ذلك مشقة زائدة.
وقرأ نافع: {نِصْفهُ وثُلُثهُ} بالجر، عطفا على {ثلثيه} فيكون المعنى: إنّ اللّه علم أنك تقوم أقل من الثلثين مرّة، وأقلّ من النصف مرّة، وأقلّ من الثلث مرّة ثالثة.
وظاهر أنّ ما دون الثلث لا يوافق المأمور به في أول السورة، وهو أن ينقص من النصف مقدار قليل، فإنّه لم يجر عرف الكلام أن يقال لما دون الثلث- في معرض التقدير بمثل هذه المقادير- إنه أقل من النصف، كما لا يقال لأمر حدث قبيل طلوع الفجر مثلا: إنه حصل بعد العشاء.
على أنّ ما دون الثلث قد جاء في الآية التي معنا مقابلا لما دون النصف، إذ الأحوال الثلاثة هي: القيام أقل من الثلثين، وأقل من النصف، وأقل من الثلث، فيتعين أن يكون قيام ما دون الثلث شيئا غير قيام ما دون النصف وحينئذ لم يأت عملهم في جميع الحالات موافقا للأمر في أول السورة، إذ قيام ما دون الثلث لا يكون امتثالا للأمر بقيام النصف إلا القليل. لكنّ ذلك لما لم يكن عن اختيار وقصد، بل كان عن محض الضرورة، بسبب أنهم لم يمكنهم ضبط مقادير الزمان مع عذر النوم لم يكن إثما، وانتفت فيه المؤاخذة، وعلى هذا يكون التخفيف عنهم بسبب هذه الضرورة، وهي عدم قدرتهم على إحصاء الوقت وضبط ساعات الليل.
وبعد فلا تناقض بين القراءتين، فإنّ الآية ليست حديثا عما أمروا به من القيام، بل هي إخبار عن الواقع الذي كان يحصل منهم. وهم كانوا أحيانا يقومون ثلث الليل، ويقومون نصفه، ويقومون قريبا من ثلثيه، وأحيانا يقومون أقلّ من ثلثه، وأقلّ من نصفه، ظنا منهم أنهم وفوا في قيامهم أقلّ من الثلث بالقدر المأمور به، لعدم ضبط الزمن، وتحديد مقاديره. فقراءة النصب توافق الحالات الأولى، وقراءة الجرّ تنزّل على الحالات الثانية.
{وطائِفةٌ مِن الّذِين معك} وهذا معطوف على الضمير المستكنّ في {تقُومُ} وهو وإن كان ضمير رفع متصل، قد سوغ العطف عليه الفصل بينه وبين المعطوف، والمعنى:
أنّ اللّه يعلم أنّه كان يقوم كذلك جماعة من الذين آمنوا بك، واتبعوا هداك.
وقد يقال: إنّ هذا يدلّ على أنّ قيام الليل لم يكن فرضا على جميع الأمة، وهو خلاف ما تقرّر تفسيره في أول السورة، ويخالف أيضا ما دلّت عليه الآثار المتقدمة هناك.
والجواب: أنه ليس في الآية ما يفيد أنّ الصحابة رضوان اللّه عليهم كانوا جميعا يصلّون مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة التهجد في جماعة واحدة، فلعلّ بعضهم كان يقيمها في بيته. فلا ينافي ذلك فرضية القيام على الجميع.
{واللّهُ يُقدِّرُ اللّيْل والنّهار} الكلام هنا على الحصر والاختصاص، أي أنّ اللّه هو وحده الذي يقدّر الليل والنهار، يعلم مقاديرهما وأجزاءهما، وما مضى من كلّ، وما بقي على التعيين والتحديد.
وهذا الاختصاص- على ما يقول الزمخشري- مستفاد من تقديم اسم الجلالة مبتدأ، وبناء الفعل عليه.
أما غير الزمخشري فإنه ينكر عليه مذهبه هذا في الاختصاص، إذ إنّه إذا قيل: محمد يحفظ الدرس، أو يتفقه على فلان، لم يفد ذلك أنه هو وحده الذي يحفظ ويتفقه. فالحصر في الآية مستفاد من سياق الكلام ودلالة المقام.
{علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ فتاب عليْكُمْ} إحصاء الأشياء عدّها، والإحاطة بمقدارها، ويصحّ أن يستعمل في القدرة على الفعل وإطاقته، وكلّ من المعنيين سائغ في الآية.
فعلى الأول: يكون الضمير المفعول في تُحْصُوهُ عائدا على مصدر مفهوم من {يُقدِّرُ} في الجملة السابقة.
والمعنى عليه: علم اللّه أنكم لم تحصوا تقدير الليل والنهار، ولن تستطيعوا ضبط ساعاتهما، ولا معرفة ما فات من ذلك على التحديد، ولا ما هو آت، وأنكم إذا أخذتم دائما بالأحوط ضعفتم، وشقّ عليكم الأمر، ولذلك خفف اللّه عنكم في أمر القيام، ورفع عنكم المقدار المحدد، ورخّص لكم أن تقوموا مقدارا ما من الليل غير مقيّد بثلث ولا بغيره.
وعلى الثاني: يكون الضمير عائدا على القيام المفهوم من {تقُومُ}.
والمعنى عليه: علم اللّه أنكم لن تحصوا قيام الليل، أي لن تطيقوه، ولن تستطيعوا المواظبة عليه مقدّرا بذلك المقدار، ولذلك خفف عنكم.
{فتاب عليْكُمْ} التوبة في الأصل معناها العود والرجوع. يقال: تاب العاصي إذا رجع إلى سبيل الطاعة، ويقال: تاب اللّه عليه، بمعنى عفا عنه، وعاد عليه بالمغفرة، فالتوبة في قوله تعالى: {فتاب عليْكُمْ} يصحّ أن تكون بمعنى المغفرة، أي غفر لكم ما كان عساه يفضي إلى مؤاخذتكم من عدم الوفاء بما أمرتم به، إذ كنتم تقومون في بعض الأحوال أقل من ثلث الليل، مع أنكم مأمورون أن تقوموا نصفه على الأقل، لا تنقصون منه إلا قليلا.
وهذا- كما ترى- إنما يظهر على قراءة نافع ومن وافقه بجر {نصفه} و{ثلثه}. أما على قراءة النصب فيكون معنى {فتاب عليْكُمْ} عاد عليكم بالترخيص والتخفيف، ورجع بكم من عسر إلى يسر، ومن شدة إلى لين، وليس هو من التوبة بمعنى المغفرة.
{فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن} للعلماء في المراد بالقراءة هنا ثلاثة أقوال:
الأول:- قول من حمل القراءة على ظاهرها، وقال: إن صلاة التهجد قد نسخت بهذا الأمر وصار المطلوب قراءة شيء من القرآن. ثم من هؤلاء من قال: إنّ الأمر بالقراءة للوجوب، ومنهم من حمله على الندب.
القول الثاني: أن المراد بالقراءة الصلاة، عبّر عنها لأنّها من أركانها، كما يعبّر عنها بالقيام والركوع والسجود، فيكون معنى: فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن صلوا ما تيسر لكم من الصلاة.
ويشهد لذلك سياق الآية، وما سبق من الآثار التي تدل على أنّ آخر السورة نسخ أولها، فصار الواجب قيام جزء ما من الليل، ثم نسخ ذلك بفرض المكتوبات الخمس.
القول الثالث:- أن المراد قراءة القرآن في الصلاة عملا بدلالة اللفظ مع شهادة السياق وتلك الآثار.
وقد تعلّق بعض الفقهاء بهذه الجملة: {فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن} يستدلون بها على أن المفروض من القراءة في الصلاة ليس سورة معينة، بل ما يطلق عليه اسم القراءة من أي سورة.
وقبل أن نشرح وجه الدلالة على ذلك، يلزم أن ننبهك إلى أنّ الاستدلال بها لا يستقيم على الوجه الأول من التفسير، فإنّ المراد بالقراءة على هذا الوجه حقيقة التلاوة خارج الصلاة، فلا تعلق لذلك بالموضوع.
وكذلك لا يستقيم على الوجه الثاني فإنّ القراءة عليه لم يرد بها معناها الحقيقي، بل هي مجاز عن الصلاة كما عرفت، فالتمسك بها إنما يستقيم على الوجه الثالث.
وذلك أنّه- بعد اتفاق الأئمة على أنّ القراءة في الصلاة من فرائضها- يقول الحنفية: إنّ الفرض مطلق قراءة آية أو ثلاث آيات- على اختلاف القولين بين الإمام وصاحبيه- من أيّ سورة من القرآن، وأنّ الفاتحة غير متعينة للفرضية، فإذا صلّى بها أو بغيرها فقد حصل ركن القراءة. وذلك لأنّ قوله تعالى: {فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن} أمر بمطلق القراءة من غير تقييد بفاتحة ولا بغيرها، ومقتضى هذا الأمر وجوب تحصيل المطلق في أي فرد من أفراده.
قالوا: ويشهد لذلك:
1- ما في (الصحيحين) عن أبي هريرة «أنّ رجلا دخل المسجد فصلّى، ثم جاء فسلّم على النبيّ عليه الصلاة والسلام، فردّ عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: ارجع فصلّ فإنك لم تصلّ، فصلّى، ثم جاء فأمره بالرجوع، فعل ذلك ثلاث مرات، فقال: والذي بعثك بالحق ما أحسن غيره. فقال عليه الصلاة والسلام: إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء، ثم استقبل القبلة، فكبّر، ثم اقرأ ما تيسّر معك من القرآن، ثم اركع حتى تطمئنّ راكعا، ثم ارفع حتى تعتدل قائما، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تطمئن قائما، ثم اسجد حتى تطمئنّ ساجدا، ثم ارفع حتى تستوي قائما، ثم افعل ذلك في صلاتك كلّها».
علمه النبيّ صلى الله عليه وسلم كيفية الصلاة، وبين له أركانها وشرائطها، ولم يعيّن عليه في ذلك قراءة الفاتحة، بل قال له: «اقرأ ما تيسر معك من القرآن».
فلو كانت الفاتحة بخصوصها ركنا لعيّنها له، وعلمه إياها إن كان يجهلها، أو وكل به من يعلمه ذلك.
2- وما روى أبو داود عن أبي هريرة من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة إلا بقرآن ولو بفاتحة الكتاب».
فإنّه ظاهر في عدم تعيين الفاتحة.
3- أما غير الحنفية فإنّهم يقولون: إنّ قراءة الفاتحة على التعيين فرض لا تجزئ الصلاة بتركها، أو بترك حرف منها، ويقولون: إن الآية- وإن كانت مطلقة- قد قيدتها الأحاديث الصحيحة التي تدلّ على أنّ خصوص الفاتحة ركن. فمن ذلك:
1- ما رواه السبعة عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
قال: النفي هنا يدلّ على انعدام الصلاة الشرعية، لعدم القراءة فيها بالفاتحة، ولا يكون عدم قراءة الفاتحة موجبا لانعدام الصلاة إلا إذا كانت الفاتحة من فرائضها.
قالوا: ولا يرد على هذا الدليل أنّه مشترك الدلالة وأنّه كما يصحّ أن يقدّر فيه متعلق الجار والمجرور الصحة حتى يكون المعنى: لا صلاة صحيحة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، كذلك يصحّ تقديره بالكمال، فيكون المعنى: لا صلاة كاملة إلخ ومثل هذا لا يصح به الاستدلال.
قالوا: لا يرد هذا: لأن الأصل في مثل هذا المتعلق أن يقدّر كونا عاما، لعدم القرينة الدالة على الخصوص. فالمعنى: لا صلاة كائنة أو موجودة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وعدم الوجود شرعا هو عدم الصحة، بل أقوى منه. ولو سلّم أنّه كون خاص، فتقدير الصحة أولى، لأن النفي متوجه في لفظ الحديث إلى ذات الصلاة، وإذا كانت الذوات لا يصحّ أن يتوجه عليها النفي، لأنّه من خواص النسب، وتعذّر بذلك حمل اللفظ على حقيقته كان الحمل على أقرب المجاورين أولى، وذلك بتقدير الصحة، فإنّ ما ليس بصحيح أقرب إلى المعدوم مما ليس بكامل.
2- وما رواه الدار قطني عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
فإنّ عدم الإجزاء ظاهر جدا في عدم الصحة.
3- وما رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «من صلّى صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج».
الخداج بالكسر: النقصان مأخوذ من خداج الناقة، وهو إلقاؤها ولدها قبل أوانه.
4- عمل النبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه عليه الصلاة والسلام قد واظب على قراءة الفاتحة في كل صلاة من غير ترك، فلو لا أنّها ركن لتركها ولو مرة تعليما وتشريعا.
هذه أدلة الفريقين تجدها في ظاهرها متعارضة، فكان لابد من النظر فيها.
وينبغي أن تعلم أولا: أنه لا سبيل إلى دعوى النسخ في شيء من تلك الأحاديث المتعارضة، لأنه لم يوقف فيها على تمييز السابق من اللاحق، فلابد إذا من أحد أمرين: إما الجمع بينهما، وإما ترجيح بعضها على بعض. على أنه متى أمكن أن يجمع بينها فلا ينبغي العدول عنه.
واعلم أيضا أنه لا مجال للمناقشة في أنّ قوله تعالى: {فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن} من قبيل المطلق، وأنّ من يجادل في هذا فهو يحاول أن يلوي الأساليب العربية عن استقامتها. كما أنّ قوله صلى الله عليه وسلم للرجل المسيء صلاته: «ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» من قبيل المطلق أيضا.
وعلى هذا أجاب الحنفية عما استدل به مخالفوهم من الشافعية وغيرهم بما يأتي:
قالوا على الدليل الرابع: إنّ عمل النبي صلى الله عليه وسلم ومواظبته على قراءة الفاتحة من غير ترك لا يدل على الفرضية، فإنّه عليه الصلاة والسلام كما كان يواظب على الفرائض، كان يواظب على الواجبات التي هي أدنى منها، وليس ترك الواجب في بعض الأحيان طريقا متعينا للتمييز بينه وبين الفرض، فإنّ التمييز كما يكون بالفعل يكون بالقول، كأن يقول لهم: إن ترك هذا لا يبطل الصلاة، ولكن لا يجوز أن تتركوه.
وأجابوا عن حديث أبي هريرة- وهو الدليل الثالث- بأنّ النقصان أعمّ من الفساد، فقد تكون الصلاة ناقصة مع الصحة بأن تكون مستجمعة شروطها وفرائضها وتخلّف شيء من الواجبات، أو السنن فيها فلضرورة الجمع بين الأدلة المتعارضة يحمل النقصان على غير الفاحش الذي يفسد الصلاة، وهو محمل غير بعيد.
وأجابوا عن الدليل الثاني: وهو ما رواه الدار قطني عن عبادة بن الصامت أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» بأنّ رواية الجماعة عنه أنّه عليه الصلاة والسلام قال: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» أرجح من تلك الرواية، لأنه لا شك أنّ ما اتفق عليه الجماعة أصحّ مما تفرّد به غيرهم ولأنّ كلتا الروايتين- وإن كانت معارضة بظاهرها لإطلاق القرآن- فأقرب الروايتين إليه رواية الجماعة، وأيضا فإنّه يصحّ أن تكون رواية الدار قطني بالمعنى وأنّ الراوي فهم من «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» عدم الإجزاء. فعبّر بلفظ: «لا تجزئ صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب».
فلم يبق إلا أن يجمع بين هذه وبين قوله تعالى: {فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن}.
وذلك أن الرواية على كل حال حديث آحاد لا تناهض القرآن، ولا تقوى على نسخه، فلو حملنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» على نفي الصحة لزم أن يكون قاضيا على الكتاب، ناسخا لحكمه، لأنّ مقتضى الكتاب صحة الصلاة بكل قراءة، ولو بغير فاتحة الكتاب، ومقتضى الحديث على ذلك المحمل عدم صحتها، إلا أن يقرأ فيها بالفاتحة، وإذا كان الشافعي رحمه اللّه لا يرى نسخ الكتاب حتى بالحديث المتواتر، كما نصّ على ذلك في (الرسالة) فيلزم ألا يجيز نسخه برواية الآحاد من باب أولى.
وإذا كانت العبرة في الأمور بمعانيها وحقائقها، لا بأسمائها وألقابها فتغيير حكم الآية بذلك الحديث- على النحو الذي يقول به الشافعية ومن وافقهم- تغيير لا يختلف في شيء عن تغيير النسخ وسمّه بعد ذلك بما شئت.
وعلى هذا ينبغي أن يحمل الحديث على نفي الكمال، بدليل نصّ الكتاب، وما جاء في حديث المسيء صلاته، ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» نظير قوله عليه الصلاة والسلام: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد» وقوله: «لا صلاة للعبد الآبق».
فإنّ القرينة الدالة على أنّ المراد نفي الكمال متحققة في الجميع، وعلى هذا يتم العمل بالقرآن والحديث، إذ يكون الأول مفيدا أنّ مطلق القراءة فرض في الصلاة.
والثاني يفيد أنّ قراءة الفاتحة من الواجبات التي هي دون الفرائض.
وبعد فالعلماء مختلفون أيضا في محلّ القراءة المفروضة:
فالحنفية القائلون بأن الفرض مطلق القراءة يقولون: إنها فرض في ركعتين من الصلوات الرباعية.
أمّا القائلون بأنّ الفرض خصوص الفاتحة، فمنهم من يقول بفرضيتها في كل ركعة من الصلاة كما هو مذهب الشافعي وإحدى الروايتين عن مالك.
ومنهم من يقول بفرضيتها في ركعتين كما هي الرواية الأخرى.
ولا نرى أن نعرض هنا لهذه التفاصيل، ومآخذ الأئمة فيها، فإنّ مرجع ذلك كله الحديث وكتب الفروع.
{علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ يبْتغُون مِنْ فضْلِ اللّهِ وآخرُون يُقاتِلُون فِي سبِيلِ اللّهِ}.
الضرب في الأرض: السير فيها، والسفر للتجارة والتعيش.
{علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى} قال بعض المفسرين: هذه الجملة مستأنفة لبيان حكمة أخرى لتخفيف قيام الليل بعد الحكمة الأولى، وهي عدم القدرة على إحصاء الوقت وتقدير ساعاته، أي علم أنه سيكون منكم مرضى إلخ كما علم عسر تقدير الأوقات عليكم. ولكنّك ترى أنه كان الظاهر على هذا أن يؤتى بالجملة الثانية {علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى}. موصولة بالأولى غير مفصولة.
وظاهر كلام الإمام الرازي أن قوله تعالى: {علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى} هو الذي يبيّن حكمة النسخ، وأنه جواب لسؤال تقديري، فكأنه قيل: لم نسخ اللّه ذلك؟
فقال: لأنه علم تعذر القيام على المرضى والضاربين في الأرض والمجاهدين في سبيل اللّه.
وهذا التوجيه يدل على أنّ قوله تعالى فيما سبق {علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ} لا مدخل له في النسخ والتخفيف، مع أنّ صريح الآية يخالفه، إذ قد رتب عليه الترخيص بالفاء الدالة على التسبب، وذلك هو قوله تعالى: {فتاب عليْكُمْ فاقْرؤُا ما تيسّر مِن القرآن}.
فالظاهر أنّ قوله تعالى: {علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى} قد جاء مجيء التفصيل بعد الإجمال، فحكمة النسخ واحدة: هي رفع المشقة المترتبة على وجوب القيام الطويل في الليل. أجملت هذه الحكمة في قوله تعالى: {علِم أنْ لنْ تُحْصُوهُ} ثم فصلت في قوله جلّ شأنه: {علِم أنْ سيكُونُ مِنْكُمْ مرْضى} إلخ. فليست هذه لبيان حكمة ثانية للنسخ كما أنها ليست مستقلة بالبيان عن ذلك الإجمال.
بيّن اللّه تعالى بذلك ثلاثة أشياء، كلها مقتض للتخفيف على الناس في قيام الليل:
الأول: المرض. فالمريض يصعب عليه طول التهجد، فإنّ السهر الكثير قد يضاعف علته ويزيد آلامه.
الثاني: الضرب في الأرض للتجارة.
والثالث: الجهاد في سبيل اللّه.
فإنّ الضاربين للتجارة وابتغاء الرزق، والمجاهدين في سبيل اللّه مشتغلون في نهارهم بتلك الأعمال الشديدة، فلو لم يناموا في الليل نوما يستعيدون به ما فقدوه من قوتهم لضعفوا، وكلّوا، وانقطعوا عن كثير من جلائل الأعمال.
قال المفسرون: إنّ في قرن الضرب في الأرض للتجارة بالجهاد في سبيل اللّه إشارة إلى أنّ الساعين في معايشهم يقاربون في الأجر المجاهدين.
روى البيهقي وسعيد بن منصور عن عمر رضي اللّه عنه قال: ما من حال يأتيني عليه الموت بعد الجهاد في سبيل اللّه أحبّ إليّ من أن يأتيني وأنا بين شعبتي جبل ألتمس من فضل اللّه تعالى، وتلا هذه الآية {وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ} إلخ.
وعن ابن مسعود أنه قال: أيما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا فباعه بسعر يومه كان عند اللّه بمنزلة الشهداء، ثم قرأ: {وآخرُون يضْرِبُون فِي الْأرْضِ}.
{فاقْرؤُا ما تيسّر مِنْهُ} أعيد هنا هذا الأمر لتوكيد الرخصة وتقديرها، وليعطف عليه ما بعده من بقية الأوامر.
{وأقِيمُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاة} اختلف المفسرون في المراد بالصلاة والزكاة هنا، فمنهم من حمل الصلاة على المكتوبات الخمس، والزكاة على زكاة الفطر، قال: لأن الآية مكية، وزكاة المال لم تفرض إلا في المدينة.
وهذا القول مردود من وجهين:
الأول: أنّ زكاة الفطر لم تجب إلا بعد الهجرة.
الثاني: أنّ الراجح في زكاة المال أنّها فرضت في مكة. غير أنه لم يعيّن فيها نصاب خاصّ، ولم تحدد الأنواع التي تجب فيها الزكاة ولا القدر الواجب صرفه للفقراء، إلا في المدينة، فكان الواجب أول الأمر أن يصرف للفقير شيء ما من المال، ويدل لذلك أنّ الزكاة وردت في آيات كثيرة مكية، كما في صدر سورة المؤمنون.
على أنّ هذا التفسير لا يتم في الصلاة إلا على القول بأنّ هذه الآية قد تأخّر نزولها عن صدر السورة بعشر سنين أو أكثر، حتى فرضت المكتوبات ليلة المعراج.
وبعضهم: حمل الصلاة على المكتوبات أيضا والزكاة على زكاة المال، وفهم كذلك أنّ زكاة المال فرضت في المدينة، فالتزم القول بأنّ هذه الآية مدنية.
وهو مردود أيضا بما سبق، وبأنّ الراجح- كما علمت أول الكلام على صدر سورة المزمل- أنّ هذه السورة برمتها مكية.
وبعضهم حمل كلّا من الصلاة والزكاة على التطوع قال: لأنّ سورة المزمل من أوائل ما نزل من القرآن، والمكتوبات الخمس لم تفرض إلا ليلة المعراج في السنة الثانية عشرة من البعثة، وقال في الزكاة ما قاله صاحب الوجه الأول.
والحق الذي يتمشّى مع الراجح في تاريخ شرعية الزكاة، ويتفق مع ما تقدم لك عن ابن عباس وعائشة رضي اللّه عنهما من أنّ آخر سورة المزمل قد نزل بعد صدرها بحول، أو قريب من الحول، هو أنّ الأمر في قوله تعالى: {وأقِيمُوا الصّلاة وآتُوا الزّكاة} على ظاهره مفيد للوجوب، وتحمل الصلاة على ما كان مفروضا في النهار أول الأمر: (ركعتين بالغداة وركعتين بالعشي) وتحمل الزكاة على المفروضة أيضا، وهي زكاة المال التي فرضت في السنة الخامسة من البعثة، على ما هو الراجح، وبذلك يتمّ القول، ولا يكون هناك إشكال.
وأقْرِضُوا اللّه قرْضا حسنا في (القاموس): والقرض (بالفتح) ويكسر: ما سلّفت من إساءة أو إحسان، وما تعطيه لتقضاه. وفيه أيضا: وأقرضه: أعطاه قرضا.
وحينئذ يكون الكلام من باب المجاز، إذ المراد من إقرأض اللّه إعطاء الفقراء والمساكين ما يعينهم، ويسد خلّتهم، فاستعمل فيه اللفظ الذي يدلّ على إعطاء اللّه جلّ وعلا، وعبّر فيه بالإقرأض، للدلالة على أنّ ثوابه مضمون، وجزاءه لا شكّ في تحققه، كما أنّ القرض لصاحبه لا شكّ في حصوله إذا كان المستقرض وفيا كريما.
قال بعض المفسرين: إن المراد بالقرض الصدقات المندوبة أمر بها الأمر بالزكاة المفروضة، إذ العطف يقتضي المغايرة.
وحمله بعض آخر على نفس الزكاة السابقة، وقال: إنّ حكمة العطف إرادة الحث والتشجيع على أداء الزكاة من حيث إنها معتبرة كالقرض، لا يضيع معروفها، ولا ينقص شيء من ثوابها، وإنّ معنى {وأقْرِضُوا اللّه قرْضا حسنا} أدوا الزكاة المفروضة عليكم على أحسن الوجوه، بأن تختاروها من أطيب الأموال وأنفعها للفقراء، وتخلصوا في ذلك النية، وترجوا به مرضاة اللّه. ولعلّ الوجه الأول هو الأرجح.
{وما تُقدِّمُوا لِأنْفُسِكُمْ مِنْ خيْرٍ تجِدُوهُ عِنْد اللّهِ هُو خيْرا وأعْظم أجْرا}.
{خيْرا} هو المفعول الثاني لتجدوا، والضمير المنفصل توكيد للمفعول الأول، وهو- وإن كان ضمير رفع- قد وقع موقع ضمير النصب. ويصحّ أن يكون ضمير فصل.
المعنى: أنّ أيّ عمل تقدمونه في الدنيا، تبتغون به منفعتكم في الآخرة، سواء أكان متعلقا بالمال، أم بغيره، فإنكم تلقون به عند اللّه جزاء أحسن منه وأكثر نفعا.
وفسر ابن عباس المفضّل عليه بالوصية، فقد روي عنه أنه يقول: {تجِدُوهُ عِنْد اللّهِ هُو خيْرا وأعْظم أجْرا} من الذي تؤخرونه إلى الوصية عند الموت.
وقيل: إن المراد أنه خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا، إذ الفرق عظيم بين المتاع الدنيوي والنعيم الجزيل الأخروي.
روى البخاري عن عبد اللّه بن مسعود قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «أيّكم مال وارثه أحبّ إليه من ماله؟ قالوا: يا رسول اللّه ما منّا من أحد إلا ماله أحبّ إليه! قال: إنما ماله ما قدّم، ومال وارثه ما أخّر».
{واسْتغْفِرُوا اللّه إِنّ اللّه غفُورٌ رحِيمٌ} ختم اللّه جلّ شأنه القول بطلب الاستغفار مما عسى أن يقع في الأعمال من الخلل أو التقصير، ووعد سبحانه بالرحمة والمغفرة لمن يلجأ إلى جنابه الكريم، إذ أخبر بأنّه عظيم المغفرة واسع الرحمة. اهـ.